الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده، وأثبت أنه الحق، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر: {بسم الله} الذي وسع رحمة وعلماً {الرحمن} الذي بث بعموم حكمته شامل نعمته في سائر بريته {الرحيم *} الذي أنار لخاصته طريق جنته، فداموا وهاموا في محبته. لما ختمت الروم بالحث على العلم، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف، وكان ذلك هو الحكمة، قال أول هذه: {آلم} مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل- لأنه ظاهر مع أن الباطن- جبرائيل عليه السلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام، فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله: {تلك} أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل، والتحلي بسائر الفضائل {آيات الكتاب} الجامع لجميع أنواع الخير {الحكيم} بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقض شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء ومن كلامه، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته، وشمول عظمته وقدرته، ودقيق صنائعه في بديع حكمته، فلا بد من نصر المؤمنين ومن داناهم في التمسك بكتاب له أصل من عند الله. وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه: {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم: 8] وقوله: {أو لم يسيروا في الأرض} [الروم: 9] وقوله: {الله يبدؤا الخلق ثم يعيده} [الروم: 11] وقوله: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} [الروم: 19] إلى قوله: {كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} [الروم: 28] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الروم: 58] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به، واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}- الآيات، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند، ويقطع بكل جاحد، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء، ثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها، ثم قال سبحانه {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} ثم اتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}- الآية، لتأسيس من اتبع فطرة الله التي تقدم ذكرها في سورة الروم، ثم تناسق الكلام وتناسج- انتهى. ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله، منزهاً عن شوائب النقص، موصوفاً بأوصاف الكمال، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص، والانقياد مع الدليل كيفما توجه، والدوران معه كيفما دار، وكان ذلك هو عين الحكمة، قال تعالى: {هدى} أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً {ورحمة} أي حاملاً على القيام بكل ما دعا إليه، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع: هي أو هو، وقال: {للمحسنين} إشارة إلى أن من حكمته أنه خاص في هذا الكمال وضعاً للشيء في محله بهذا الصنف، وهم الذين لزموا التقوى فأدتهم إلى الإحسان، وهو عبادته تعالى على المكاشفة والمراقبة فهي له أو هو لها آخر، ثم وصفهم في سياق الرحمة والحكمة والبيان بالعدل بياناً لهم بما دعت إليه سورة الروم من كمال الإحسان في معاملة الحق والخلق اعتقاداً وعملاً فقال: {الذين يقيمون الصلاة} أي يجعلونها كأنها قائمة بفعلها بسبب إتقان جميع ما آمر بعد فيها وندب إليه، وتوقفت بوجه عليه، على سبيل التجديد في الأوقات المناسبة لها والاستمرار، ولم يدع إلى التعبير بالوصف كالمقيمين داع ليدل على الرسوخ لأن المحسن هو الراسخ في الدين رسوخاً جعله كأنه يرى المعبود ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس رات إلا معظم له بالحج فعلاً او قوة {ويؤتون الزكاة} أي كلها فدخل فيها الصوم لأنه لا يؤدي زكاة الفطر إلا من صامه قوة أو فعلاً. ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان، وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه، وحاملاً على سائر وجوه الإحسان، وكان قد ختم الروم بالإعراض أصلاً عمن ليس فيه أهلية الإيقان، قال: {وهم} أي خاصة لكمالهم فيما دخلوا فيه من هذه المعاني {بالآخرة} التي تقدم أن المجرمين عنها غافلون {هم يوقنون} أي مؤمنون بها إيمان موقن فهم لا يفعل شيئاً الإيمان بها، ولا يغفل عنها طرفة عين، فهو في الذروة العليا من ذلك، فهو يعبد الله كأنه يراه، فآية البقرة بداية. وهذه نهاية.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال، الموجبة للكمال، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها، بعد أن زمها بزمامها، فقال: {أولئك} أي العالوا الرتبة الحائزون منازل القربة أعظم رتبة {على هدى} أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال: {من ربهم} تذكيرا لهم بأنه لولا إحسانه ما وصلوا إلى شيء. ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب، خوفاً من الإعجاب {وأولئك هم} أي خاصة {المفلحون *} أي الظافرون بكل مراد. ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفاً على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال: {ومن} ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة. أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من {الناس} الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلاً عن مقام أولي الإحسان. ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: {من يشتري} أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به {لهو الحديث} أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين- قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً، وقال مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال ابن مسعود: اللهو الغناء، وكذا قال ابن عباس وغيره. ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: {ليضل} من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل. ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: {بغير علم} ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى. ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على «يضل» في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفاً على {يشتري}: {ويتخذها} أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق {هزواً}. ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى «من» بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ {أولئك} أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: {لهم عذاب مهين *} أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة. ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً، فإذا نبه انتبه، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب: {وإذا تتلى عليه آياتنا} أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان وإن عظم {ولى} أي بعد السماع، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانبة أو مدبراً {مستكبراً} أي حال كونه طالباً موجداً له بالإعراض عن الطاعة تصديقاً لقولنا آخر تلك {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} [الروم: 58]. ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل: {كأن} أي كأنه، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين {لم يسمعها} فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك. ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها، لأن سمعه مشابه لمن به صم، فالمضارع في «يتلى» مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى: {كأن في أذنيه وقراً} أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته. ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائناً من كان نوع اهتزاز قال: {فبشره} فلما كان جديراً بأن يقبل- لا يولّي لظنه البشري- على حقيقتها لأن من يعلم أنه أهل للعذاب بأفعاله الصعاب لا يزال يتوالى عليه النعم مرة بعد مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه- لما كان عند الله من عظيم المنزلة- لا يكره منه عمل من الأعمال، قرعة بقوله: {بعذاب} أي عقاب مستمر {أليم *}. ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة: {إن الذين آمنوا} أو اوجدوا الإيمان {وعملوا} أي تصديقاً له {الصالحات} وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة {لهم جنات} أي بساتين {النعيم} فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم. ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً. وكان لا سرور بشيء منقطع قال: {خالدين فيها} أي دائماً. ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد، وكان إنجاز الوعد من الحكمة، قال مؤكداً لمضمون الوعد بالجنات: {وعد الله} الذي لا شيء أجل منه؛ فلا وعد أصدق من وعده، ثم أكده بقوله: {حقاً} أي ثابتاً ثباتاً لا شيء مثله، لأنه وعد من لا شيء مثله ولا كفوء له. ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد، أتى بصفتين مما أفهمه الإتيان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لا بد منه فقال: {وهو} أي وعد بذلك والحال أنه {العزيز} فلا يغلبه شيء {الحكيم*} أي المحكم لما يقوله ويفعله، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه. ولما ختم بصفتي العزة- وهي غاية القدرة- والحكمة- وهي ثمرة العلم- دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال: {خلق السماوات} أي على علوها وكبرها وضخامتها {بغير عمد} وقوله: {ترونها} دال على الحكمة، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة، لأنه يحتاج إلى عملين: تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف. ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال: {وألقى في الأرض} أي التي أنتم عليها، جبالاً {رواسي} والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن {أن تميد} أي تتمايل مضطربة {بكم} كما هو شأن ما على ظهر الماء. ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار. ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال: {وبث فيها} أي فرق {من كل دابة} ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه: {وأنزلنا} أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال: {من السماء ماء} ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل، دل عليه بقوله: {فأنبتنا} أي بما لنا من العلو في الحكمة {فيها} أي الأرض بخلط الماء بترابها {من كل زوج} أي صنف من النبات متشابه {كريم*} بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق، لأن ذلك عين الحكمة، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع: {هذا} أي الذي تشاهدونه كله {خلق الله} أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له. ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره: فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله: {فأروني ماذا خلق الذين} زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص: {من دونه} فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً، فكان من حقكم- إن كانت لكم عقول- أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا، وإذا ثبت أن غيرهم شاركهم فأيهما أحكم وأما أنكم تنقادون لهم ولا فعل لهم أصلاً ثم تقدرون أن لهم أفعالاً ترجونهم بها وتخشونهم، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً، ولذلك قال تعالى: {بل} منبهاً على أن الجواب: ليس لهم خلق، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {الظالمون} أي العريقون في الظلم، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جداً محيط بهم {مبين} أي في غاية الوضوح، وهو كونهم يضعون الأشياء عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم. ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب، واعتصم بآيات الكتاب، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله: «وهو العزيز الحكيم» أو على مقدر تقديره: لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله، فهو تقدير لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم. بالرسالة: {ولقد آتينا} بما لنا من العظمة والحكمة {لقمان} وهو عبد من عبيدنا {الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم، وقال الحرالي: هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، وقال ابن ميلق: إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل، ولهذا قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل، قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها- انتهى. ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حقاً أقول! لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء، قيل: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق، فأجاب: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إذ يعدل فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها» وفي الفردوس عن مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت»، وقال لقمان: لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال: ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع، وقيل له: أيّ الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، وقيل له: ما أقبح وجهك! فقال: تعيب النقش أو النقاش، وقال البغوي: إنه قيل له: لم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني- انتهى. فهو سبحانه من حكمته وحكمه أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه سلامة الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، قال ابن ميلق: من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير ذلك، فما من سابق عدل إلا له لاحق فضل، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل، غير أن أثر العدل والفضل قد يتعلق بالبواطن خاصة، وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن، وقد يكون اختلاف تعلقمها في حالة واحدة، وقد يكون على البدل، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق. ولما كانت الحكمة قاضية بذلك، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره، وذلك كثير موجود بالاستقراء، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب- إلى غير ذلك من فؤائد التربية، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد لما قررته بالصحة إن شاء الله تعالى- انتهى. ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال: {أن اشكر} وهو وإن كان تقديره: قلنا له كذا، يؤول إلى «آتيناه الشكر» وصرف الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال: {لله} بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به، ويمكن أن تكون «أن» مصدرية، ويكون التقدير: آتيناه إياها بسبب الشكر، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى. ولما كان التقدير: فبادر وشكر، فما نفع إلا نفسه، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من أقبل عليه- في أيّ زمان كان- يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل: {ومن يشكر} أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان {فإنما يشكر} أي يفعل ذلك {لنفسه} أي فإنما ينفع نفسه، فإن الله يزيده من فضله فإن الله شكور مجيد {ومن كفر} فإنما يضر نفسه، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه {فإن الله} عبر بالاسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة، والحكيم من أدام استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار {غني} عن الشكر وغيره {حميد *} أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامدة بالقدرة والعزة والفهم والعظمة. ويجوز- وهو أقرب- أن يعود «غني» إلى الكافر و«حميد» إلى الشاكر، فيكون اسم فاعل، فيكون التقدير: ومن كفر فإنما يكفر على نفسه، ثم سبب عن الجملتين وهما كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله «فإن الله غني» أي عن شكر الكافر «حميد» للشاكر، والآية على الأول من الاحتباك: تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا، وإثبات الصفتين يدل على حذف مثلهما أولاً.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقته للواقع، فكان التقدير: اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة، عطف عليه قوله: {وإذ} أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك- بما أنك رسول- ما كان حين {قال لقمان لابنه} ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحمل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير، وعلى تأديب الولد، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال: {وهو يعظه} أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه، ويوجب له الخشية والعدل. ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: {يا بني} فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح {لا تشرك} أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال، تحقيقاً لمزيد الإشفاق. فقال: {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: {إن الشرك} اي بنوعيه {لظلم عظيم*} أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله، فظلمه ظاهر من جهات عديدة جداً، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذاته إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب الوجود، فلا خير ولا نعمة إلا منه، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، العاجلة والآجلة، وهو الأمن والهداية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] فإنه لما نزلت تلك الآية كما هو صحيح البخاري في غير موضع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس بذاك، ألم تسمع إلى قول لقمان {إن الشر لظلم عظيم}». ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق وإن صغر لأهله وإيذاناً بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتفخيماً لحق الوالدين، لكونه قرن عقوقهما بالشرك، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر» ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق. ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين، وارتكاباً لأخف الضررين: {ووصينا} أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا- هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال: {الإنسان} أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان {بوالديه} فكأنه قال: إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم، فانتهى في نفسه ونهى ولده، فكان بذلك حكيماً. ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية. فقال معللاً أو مستأنفاً: {حملته أمه وهناً} أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت {على وهن} أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله: {وفصاله} أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه. ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه- مع كونها أضعف ما يكون في تربيته- أيام سعة وسرور، والتعبير ب «في» مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره. ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل «وصينا»: {أن اشكر} ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك. ولما كان لا بد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم تنصيصاً على المراد: {لي} أي لأني المنعم بالحقيقة {ولوالديك} لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه: الموجودات كلها كالشجرة، والإنسان ثمرتها، وهي كالقشور والإنسان لبابها، وكالمبادئ والإنسان كمالها، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه، ليس في العالم العلوي ما فيه، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً. ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال: {إليّ} لا إلى غيري {المصير*} أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً بما جعلت لهما من التسبب في ذلك، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما. ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: {وإن جاهداك} أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك {على أن تشرك بي} وأشار بأداة الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة، وليست لقوة الكفار، فعبر فيها بلام العلة، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان، ولذلك حذر في الأية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال: {ما ليس لك به علم} إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول، وأما الوجه الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيداً فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من العقل والتكذيب بالنقل، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد. فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع، قال مسبباً عنه: {فلا تطعهما} أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه، بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك. ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال: {وصاحبهما في الدنيا} أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما. ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق، خفف عليه بالتنكير في قوله: {معروفاً} أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، قال ابن ميلق: ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية- يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد، قال ابن ميلق: ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا في الكفر من حيث زعموا التوحيد فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله، وامتثال لأمر الله، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله، ثم قال ما معناه: وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا: إنه ليس في الكون إلا هو، وهم أهل الوحدة المطلقة، والكل على ضلال، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده. ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة، نفى ذلك بقوله: {واتبع} أي بالغ في أن تتبع {سبيل} أي دين وطريق {من أناب} أي أقبل خاضعاً {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن كان عمله موافقاً لها اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب. ولما كان التقدير: فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ، عطف عليه قوله: {ثم إليّ} أي في الآخرة، لا إلى غيري مرجعك- هكذا كان الأصل، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه: {مرجعكم} حساً ومعنى، فأكشف الحجاب {فأنبئكم} أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم} بما هو لكم كالجبلة {تعملون*} أي تجددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية.
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها، وأنها في علم الله سواء، حسن جداً الرجوع إلى تمام بيان حكمته، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد، وعبر بمثقال الحبة لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه: {يا بني} متحبباً مستعطفاً، مصغراً له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً: {إنها} أي العمل، وأنث لأنه في مقام التقليل والتحقير، والتأنيث أولى بذلك، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية والحسنة والسيئة {إن تك} وأسقط النون لغرض الإيجار في الإيصاء بما ينيل المفاز، والدلالة على أقل الكون وأصغره {مثقال} أي وزن، ثم حقرها بقوله: {حبة} وزاد في ذلك بقوله: {من خردل} هذا على قراءة الجمهور بالنصب، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره- بما أشار إليه التأنيث. ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها: {فتكن} إشارة إلى ثباتها في مكانها. وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من أن المقصد عظيم بحذف النون وإثبات هذه، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز: {في صخرة} أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها. ولما أخفى وضيق، أظهر ووسع، ورفع وخفض، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال: {أو في السماوات} أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد «أو» نصاً على إرادة كل منهما على حدته، والجار تأكيداً للمعنى فقال: {أو في الأرض} أي كذلك، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما، وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال: {يأتِ بها الله} بعظم جلاله، وباهر كبريائه وكماله، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها، فيحاسب عليها، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق: {إنّ الله} فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم {لطيف} أي عظيم المتّ بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أمر أراده حتى بضد الطريق الموصل فيهما يظهر للخلق {خبير *} بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء، ولا يفوته أمر. ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه، وتخضعاً لديه، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه، فقال: {يا بني} مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة {أقم الصلاة} أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها- وهي الإيتان بها على النحو المرضي- مانعة من الخلل في العمل {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد، وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم. ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق، وذلك أنه لما كان الناس في هذه الدار سفراً، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه، وقدمه- وإن كان من جلب المصالح- لأنه يستلزم ترك المنكر، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير، فإنك إذا قلت: لا تأت منكراً، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية، لا فعل الطاعة، فقال: {وأمر بالمعروف} أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك. ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم، وكانت المعاصي مفسدة لها، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها: من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر، صرح به فقال: {وانه} أي كل من قدرت على نهيه {عن المنكر} حباً لأخيك ما تحب لنفسك، تحقيقاً لنصيحتك، وتكميلاً لعبادتك، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى: ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم لأنه أمره أولاً بالمعروف، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها، ناسب أن يأمر غيره ينهاه، وهذا وإن كان من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به. ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم، قال تعالى: {واصبر} صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً {على ما} أي الذي، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة، فقال: {أصابك} أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين، المخاطب هنا مؤمن متقلل، وهناك كافر متكثر. ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل: {إن ذلك} أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب: {من عزم الأمور} أي معزوماتها، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم، وينحو إليها بكليته الجازم، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل. ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي- لتصورهما بصورة الاستعلاء- الإعجاب إلى الكبر، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه، لأن النفي الأعم نفي للأخص، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور: {ولا تصعر خدك} أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: تصاعر، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر- والله أعلم. ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم، أشار إلى المقصود بقوله تعالى: {للناس} بلام العلة، أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو، وأتبع ذلك ما يلزمه فقال: {ولا تمش} ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر، ذكره بأن أصله تراب، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال: {في الأرض} وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال: {مرحاً} أي اختيالاً وتبختراً، أي لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي، بل امش هوناً فأن ذلك يفضي بك إلى التواضع، فتصل إلى كل خير، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها. ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله: {إن الله} أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة. ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور، وكانت «لا» لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال: {لا يحب} أي فيما يستقبل من الزمان، ولو قال «يبغض» لاحتمال التقييد بالحال، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال: {كل مختال} أي مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه، وذلك فعل المرح {فخور} يعدد مناقبه، وذلك فعل المصعر، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم: {واقصد} أي اعدل وتوسط {في مشيك} لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان- قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر {واغضض} أي انقص، ولأجل ما ذكر قال: {من صوتك} بإثبات «من» أي لئلا يكون صوتك منكراً، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به. ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب «من» فأفهم أن الطرفين مذمومان، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة «أفعل» على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال: {إن أنكر} أي أفظع وأبشع وأوحش {الأصوات} أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً، مبالغة في التهجين، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال: {لصوت الحمير} أي هذا الجنس، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة، وأوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق، وهي أمهات الفضائل الثلاث: الحكمة والعفة والشجاعة، وأمرت بالعدل فيها، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل، ونهت عن مساؤى الأخلاق، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه، قال: إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى: إحداها مبدأ إدراك الحقائق، والشوق إلى النظر في العواقب، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة، والثانية العفة، والثالثة الشجاعة، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [البقرة: 269] وإفراطها الجربزة، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي، كمخالفة الشرائع- نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت: وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز- بالضم، وهو الخب، أي الخداع الخبيث- والله أعلم، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة، حتى يكون فعلها جميلاً، وصبرها محموداً، وإفراطها التهور، أي الإقدام على ما لا ينبغي، وتفريطها الجبن، أي الحذر عما لا ينبغي، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة، لتسلم عن استعباد الهوى إياها، واستخدام اللذات، وإفراطها الخلاعة والفجور، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب، وتفريطها الجمود، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة، فالأوساط فضائل، والأطراف رذائل، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة، أي في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام «خير الأمور أوساطها» والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها، ومقصدها المتوجه إليه، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها- انتهى. ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفاً من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر، فقال: {ألم تروا} اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث، المتكبرون علي المقبلين على الله، المتخلين عن الدنيا، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} {أن الله} أي الحائز لكل كمال {سخر لكم} أي خاصة {ما في السماوات} بالإنارة والإظلام، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام، وأكده بإعادة الموصول والجار، لأن المقام حقيق به فقال: {وما في الأرض} بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه، ما لأحد ممن دونه فيه شيء، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن {وأسبغ} أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل {عليكم} أيها المكلفون {نعمه} أي واحدة تليق بالدنيا- في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً {ظاهرة} وهي ما تشاهدونها متذكرين لها {وباطنة} وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها، أو تحسونها وهي خفية عنكم، لا تذكرونها إلا بالتذكير، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين، حذراً من سلب نعمه، وإيجاب نقمه، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى: {خلق السماوات بغير عمد ترونها}. ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: {ومن الناس} أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالاً من {ألم تروا} ويكون {ألم تروا} دليلاً على أول السورة، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس {من يجادل} فلا لهو أعظم من جداله، ولا كبر مثل كبره، ولا ضلال مثل ضلاله، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى: {في الله} المحيط بكل شيء علماً وقدرة. ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهماً، قال: {بغير} أي بكلام متصف بأنه غير {علم} أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى. ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم: {ولا هدى} أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها. ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً، قال: {ولا كتاب} أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: {منير*} أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)} ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعاً هواه مقلداً مثله قطعاً، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجباً، عجب منهم تعجيباً آخر بإقامتهم على الضلال مع إيضاح الادلة فقال: {وإذا قيل} أي من أيّ قائل كان. ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى، أفرد أولاً وجمع هنا فقال: {لهم} أي للمجادلين هذا الجدال: {اتبعوا ما} أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال: {أنزل الله} الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، وهو الذي لا عظيم إلا هو {قالوا} جموداً: لا نفعل {بل نتبع} وإن جاهدنا بالأنفس والأموال {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً. ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: {أو لو كان الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليللهم فهو {يدعوهم} إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك {إلى عذاب السعير*} وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه. ولما كان التقدير: فمن جادل في الله فلا متمسك له، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم: {ومن يسلم} أي في الحال أو الاستقبال {وجهه} أي قصده وتوجهه وذاته كلها. ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة، عدى الفعل ب «إلى» تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك، فقال معلقاً بما تقديره: ساتراً وواصلاً {إلى الله} الذي له صفات الكمال، فلم يبق لنفسه أمر أصلاً، فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه {وهو} أي والحال أنه {محسن} أي مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائماً في حال الشهود {فقد استمسك} أي أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوة في بادئه الأمور لترقية نفسه من حضيضها إلى أوج الروح على أيدي المسلكين الذين اختارهم لدينه، العارفين بأخطار السير وعوائق الطريق {بالعروة الوثقى} التي هي أوثق ما يتمسك به فلا سقوط له أصلاً، فليسررك شكره فإن ربه يعليه إلى كل مراد ما دام متمسكاً بها تمثيلاً لحال هذا السائر بحال من سقط في بئر، أو أراد أن يرقى جبلاً، فادعى له صاحبه حبلاً ذا عرى فأخذ بأوثقها، فهو يعلو به إذا جره صديقه. وهو قادر على جره لا محالة من غير انفصام، لأن متمسكه في غاية الإحكام. ولما كان الكل صائرين إليه، رافدين عليه: من استمسك بالأوثق، ومن استمسك بالأوهى، ومن لم يتمسك بشيء، إلا أن الأول صائر مع السلامة، وغيره مع العطب، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره: فيصير إلى الله سالماً، فإلى الله عاقبته لا محال: {وإلى الله} أي الملك الأعظم وحده تصير {عاقبة الأمور *} أي كما أنه كانت منه بادئتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة. ولا ذكر المسلم ذكر الكافر فقال: {ومن كفر} أي ستر ما أداه إليه عقله من أن الله لا شريك له، وأنه لا قدرة لأحد سواه، ولم يسلم وجهه إليه، فتكبر على الدعاة وأبى أن ينقاد لهم، اتباعاً لما قاده إليه الهوى. بأن جعل لنفسه اختياراً وعملاً فعل القوي القادر، فقد ألقى نفسه في كل هلكة لكونه لم يتمسك شيء {فلا يحزنك} أي يهمك ويوجعك، وأفرد الضمير باعتبار لفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد فقال: {كفره} كائناً من كان فإنه لم يَفُتك شيء فيه خير ولا معجز لنا ليحزنك، ولا تبعة عليك بسببه، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأول بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين، وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه، فالآية من الاحتباك: ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وذكر الاستسماك أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً. ولما كان الحزن بمعنى الهم، حسن التعليل بقوله التفاتاً إلى مظهر العظمة التي هذا من أخفى مواضعها، وجمع لأن الإحاطة بالجمع أدل على العظمة: {إلينا} أي خاصة بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال {مرجعهم} أي رجوعهم وزمانه ومكانه أي معنى في الدنيا وحساً يوم الحساب، لا إلى غيرنا، ولما بين أنهم في قبضته، وأنه لا بد من بعثهم، بين أن السبب في ذلك حسابهم لتظهر الحكمة فقال: {فننبئهم} بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم {بما عملوا} أي ونجازيهم عليه إن أردنا. ولما كان معنى التضعيف: نفعل معهم فعل منقب عن الأمور مفتش على جليها وخفيها، جليلها ودقيقها، فلا نذر شيئاً منها، علله بقوله معبراً بالاسم الأعظم المفهم للعظمة وغيرها من صفات الكمال التي من أعظمها العلم، لفتاً للكلام عن العظمة التي لا تدل على غيرها إلا باللزوم، مؤكداً لإنكارهم شمول علمه {إن الله عليم} أي محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال {بذات الصدور*} أي بالأعمال التي هي صاحبتها، ومضمرة ومودعة فيها، فناشئة عنها ومن قبل أن تبرز إلى الوجود، فكيف بذلك بعد عملها.
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} ولما تشوف المسلم إلى إهلاك من هذا شأنه وإلى العلم بمدة ذلك، وكان من طبع الإنسان العجلة، أجاب من يستعجل بقوله عائداً إلى مظهر العظمة التي يتقاضاها إذلال العدو وإعزاز الولي: {نمتعهم قليلاً} أي من الزمان ومن الحظوظ وإن جل ذلك عند من لا علم له، فلا تشغلوا أنفسكم بالاستعجال عليهم فإن كل آت قريب. ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال، التي تذل الرجال، وتدك الجبال، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع، أو عند الله فقال: {ثم نضطرهم} أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة، وأشار إلى طول إذلالهم في مدة السوق بحرف الغاية، فكان المعنى: فنصيرّهم بذلك الأخذ {إلى عذاب غليظ *} أي شديد ثقيل، لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه. ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به قطعاً التسليم في أنه الواحد لا شريك له وأن له جميع صفات الكمال فله الحمد كله، قال: {ولئن} أي يجادلون أو يقولون: بل نتبع آباءنا والحال أنهم أن {سألتهم من خلق السماوات} بأسرها {والأرض} وجميع ما فيها {ليقولن} ولما كان الأنسب للحكمة التي هي مطلع السورة الاقتصار على محل الحاجة، لم يزد هنا على المسند إليه بخلاف الزخرف التي مبناها الإبانة، فقال لافتاً القول عن العظمة إلى أعظم منها فقال: {الله} أي «المسمى بهذا الاسم الذي جمع مسماه بين الجلال والإكرام» فقد أقروا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته. ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها، أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما، وأن من جملة ذلك مما يستحق به الحمد سبحانه قهرهم على تصديقه صلى الله عليه السلام بمثل هذا الإقرار وهم في غاية التكذيب، فقال مستأنفاً: {قل الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي الذي له الإحاطة الشاملة الكاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره «الأمر أعظم من مقالة قائل» كما أحاط بما تعلمونه من خلق السماوات والأرض، فهو فاعل الإفعال كلها، كما أنه خالق الذوات كلها، ولا شريك له في شيء من الأمر، كما أنه لا شريك له في شيء من الخلق. ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدوسي رضي الله عنه: هل يخشى على الصبية من ذي الشرى، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سب آلهتهم: اتق الجذام اتق البرص، وكما قال سادن العزى، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض، والله ليغضبن الأساس، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك: إنهم ليعلمون ما أثبت بالتحميد، قال: {بل أكثرهم لا يعلمون *} أي إن الله هو المنفرد بكل شيء كما أنه تفرد بخلق السماوات والأرض، وأنه لا يكون شيء، إلا بإذنه لأنهم لا يعملون بما يعلمون من ذلك، وعلم لا يعمل به عدم، بل العدم خير منه، وكان القليل هم المقتصدون عند النجاة من الشدة كما سيأتي آنفاً، أو يكون المعنى أنه لا علم لهم أصلاً إذ لو كان لهم علم لنفعهم في علمهم بالله، أو في أنهم لا يقرون بتفرده سبحانه بالخلق والرزق، فيكون ذلك موجباً لتناقضهم وملزماً لهم بالإقرار بصدقك غي الحكم بوحدانيته على الإطلاق. ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال، شرع يستدل على ذلك، فقال مبيناً أن ما أخبر أنه صنعه فهو له: {لله} أي الملك الأعظم المحيط بجميع أوصاف الكمال خاصة دون غيره {ما في السماوات} كلها. ولما تحرر بما تقدم أنهم عالمون مقرون بما يلزم عنه وحدانيته، لم يؤكد بإعادة {ما} والجار، بل قال: {والأرض} أي كلها كما كانتا مما صنعه، فلا يصح أن يكون شيء من ذلك له شريكاً. ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {هو} أو وحده، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه، ولذلك أظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن كل ما وصف به فهو ثابت له مطلقاً من غير تقييد بحيثيته {الغني} مطلقاً، لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه، وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً. ولما كان الغني قد لا يوجب الحمد لله: {الحميد *} أي المستحق لجميع المحامد، لأنه المنعم على الإطلاق، المحمود بكل لسان ألسنة الأحوال والأقوال، ولو كان نطقها ذماً فهو حمد من حيث إنه هو الذي أنطقها، ومن قيد الخرس أطلقها. ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك، بل لا حد لغناه، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه، فقال: {ولو} أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو {أنّ ما في الأرض} أي كلها، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله: {من شجرة} حيث وحدها {أقلام} أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام {والبحر} أي والحال أن البحر، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير: ولو أن البحر {يمده} أي يكون مدداً وزيادة فيه {من بعده} أي من ورائه {سبعة أبحر} فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله {ما نفدت} وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل: {كلمات الله} وفنيت الأقلام والمداد، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى، ويتبع الكلمات الإبداع، فلا تكون كلمة إلا الأحداث شأن من الشؤون {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى، ولا تضاهى، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة، وعدم البعث إنكار للحكمة: {إن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً {عزيز} أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء {حكيم *} يحكم ما أراده، فلا يقدر أحد على نقضه، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، وهو من عظيم هذا الفن، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها، وأن المراد بجمع القلة في «أبحر» الكثرة، لقرينة المبالغة، وبجمع القلة في {كلمات} حقيقتها لينتظم المعنى، وكل ذلك سائغ شائع في لغة العرب.
|